[تعمل ”جدلية“ على نشر مقاطع من أعمال ومقالات أدباء وشخصيات نتناول سيرتها في ”ملف من الأرشيف“. في هذا الأسبوع، الذي يصادف ذكرى وفاة الكاتب والباحث الفلسطيني خليل السكاكيني (23 كانون الثاني 1878 القدس-13 آب 1953 القاهرة)، نخصص فقرة ”ملف من الأرشيف“ لحياته كما نعيد نشر مقاطع من مذكراته التي دأب منذ مطلع شبابه على كتابتها، مسجّلاً فيها الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية الدائرة آنذاك. وتعتبر هذه المذكرات إرثاً عظيماً لما تقدمه لنا من معلومات ومعرفة عن حياة السكاكيني الخاصة، وعما شهدته فلسطين في تلك الفترة الحاسمة من تاريخها وتاريخ المنطقة. ننشر أدناه مقاطع من "كذا أنا يا دنيا" وهي مذكراته التي نُشرت عام 1955، عقب وفاته بعامين. بالإضافة إلى هذه الأخيرة، فقد نشرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية في العقدين الأخيرين مذكراته الكاملة على مراحل. مصدر المقاطع أدناه هو: موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر/أنطولوجيا (الجزء الثاني-النثر) تحرير سلمى الخضراء الجيّوسي (المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 1997.)]
”كذا أنا يا دنيا“، خليل السكاكيني،المطبعة التجارية، القدس 1955.
الأحد في 2/12/1917
مررت في الصباح على عزت بك في دار المتصرّف التي هي دار مطران الإنكليز لأخذ وثيقة السفر، فلم أجد أحداً.
ولست أدري علام الحكومة العثمانية تريد إبعادي من القدس. هل تظن أن الإنكليز قد يحتاجون إلى مثلي وأنا لا أصلح إلا لأن أكون معلّماً ولا أحب إلا أن أكون مشتغلاً في عملي، فإذا جاء الإنكليز أو بقيت البلاد في أيدي العثمانيين فإنني لا أشتغل إلاّ في التعليم ولا أعمل إلاّ ما يوصيه إليّ ضميري، لا أتزلّف من أحد ولا أخدم أغراض أحد. ثم لا يهمني مجيء الإنكليز إلى هذه البلاد فإن قررت إذا عشت بعد الحرب أن أرحل عن هذه البلاد إلى أمريكا فأضع إبني في مداراسها. وأينما كنت فإني لست إلاّ إنساناً محضاً أي لا أنتمي إلى حزب من الأحزاب الدينية او السياسية بل أعدّ نفسي وطنياً أينما كنت وأشتغل في ترقية الوسط الذي أنا فيه سواء كان أمريكياً أو إنكليزياً أو عثمانياً أو زنجياً، مسيحياً أو إسلامياً أو وثنياً. لا أشتغل إلا في خدمة العلم والعلم لا وطن له. وما هي الوطنية؟ إذا كانت الوطنية أن يكون الإنسان صحيح الجسم، قوياً، نشيطاً، مستنير العقل، حسن الأخلاق، أنيساً، لطيفاً، فأنا وطني. وأما إذا كانت الوطنية تفضيل مذهب على مذهب وأن يعادي الإنسان أخاه إذا لم يكن من بلاده او مذهبه، فلست وطنياً.
الأربعاء في 2/1/1918
كان في السجن معنا منذ جئنا دمشق إلى اليوم شاب من صيدا إسمه صبحي سجن نحو ثلاثين يوماً لأمر طفيف. وقد مرّت عليه الأيام الأخيرة وهو واقف في نافذة الغرفة لا يدع أحداً يمر دون أن يكلّفه الاهتمام بأمره. وقد كانت امرأته، وهي فتاة صغيرة، تروح وتجيء في سبيل الإفراج عنه، وقد رأيت من همتها واقدامها على حداثة سنها ما ذكّرني بهمة أم سري وأختي ميليا. إلى أن جاءته اليوم تبشّره بالفرج، فودّعنا وخرج، فقبلته وهنأته وقلبي يخفق حنيناً إلى مثل هذا اليوم. متى أراكِ يا عائلتي المحبوبة؟
مع حنيني إلى القدس وأسفي الشديد للخروج منها فإني لو كنت فيها يوم دخلها الإنكليز لكنت ذهبت إلى إحدى القرى المجاورة لأسبوع أو أسبوعين تفادياً من أرى المشاهد الباردة التي يقوم بها الصعاليك المنافقون الذين يتلونون بكل الألوان ولا يزالون كل يوم في شأن. فالأمس كانوا يجاملون الحكومة العثمانية ويداهنونها ويسبّحون بحمدها وشكرها، واليوم يداهنون الحكومة الإنكليزية. تلك مشاهد تتقزّز منها نفسي وإني وإن كنت تألّمت كثيراً في الإنفصال عن عائلتي فإن لا يسعني إلاّ أن أكون شاكراً لأني لم أر تلك المشاهد.
السبت في 2/1/1918
لقد كان لانسحابي من الخطابة في الإذاعة الفلسطينية، استنكاراً لقول اليهود أن فلسطين أرض إسرائيل، ضجة في طول البلاد وعرضها مما رأيت أثره في الجرائد المحلية.
وقد اضطرّت الحكومة على أثر إنسحابي أن تعلن أنها منعت اليهود من أن يُسمّوا فلسطين أرض إسرائيل، ولكن هل تعود فتكلّفني الكلام؟ لست أظن ذلك، وسنرى.
السبت في 30/3/1948 (الظهر)
قام اليهود بهجوم عنيف على حيّنا القطمون منذ نصف الليل من ليلة أمس ولا يزال مستمراً إلى ظهر هذا اليوم، قذفت فيه القنابل من المدافع وأطلق الرصاص من البنادق على اختلاف هذه وتلك ونسفت الألغام مما لم يسبق له مثيل، بل لعل كتشنر لم يسمع في كل معاركه ما سمعناه الليلة.
***
لا عجب والحالة هذه أن يفكّر السكان في الإنتقال من محلة أخرى أو بلد آخر ويخلصوا من هذا القلق المستمر ويأمنوا هذا الخطر المائل أمام عيونهم في الليل والنهار. ومما يضيق به الصدر وتضطرب الأعصاب لهذا الهلع الذي يستولي على النساء والأطفال. لذلك كله، رحل كثيرون من سكان محلتنا إما إلى المدينة القديمة وإما إلى بيت جالا وإما إلى عمّان وإما إلى مصر وإما إلى محل آخر، ولم يبق إلا القليلون من أصحاب الأملاك.
الوداع يا كتبي النفيسة القيّمة المختارة. أقول كتبي وأنا أعني أولاً أني لم أرثها عن الآباء والأجداد... وثانياً لم استعرها من الناس، ولكنها من إنشاء هذا العاجز الواقف أمامكم... ومن يصدق أن بعض الأطباء كانوا يستعيرون مني بعض الكتب الطبية لأن هذه الكتب لا توجد إلا في مكتبتي... لم تعرض مشكلة في اللغة في إحدى دوائر الحكومة إلا سألوني عنها لأنهم يعرفون أن مظان هذه المشكلة لا توجد إلا في مكتبتي، وقد أكون من العارفين بهذه المظان.
الوداع يا كتبي! لست أدري ما حلّ بكِ بعد رحيلنا، إنتهبتِ، أحرقتِ، أنقلت معززة مكرّمة إلى مكتبة عامة أو خاصة، أصرتِ إلى دكاكين الباقلين يلفّ بأوراقك البصل؟!
الوداع يا كتبي! يعز عليّ أن أحرم منكِ وأنا على أهبة الرحيل من هذه الدنيا. وهل يستطيع من كان مثلي على أهبة الرحيل، والبقية الباقية من عمره لا تزيد عن أربعين أو خمسين سنة! ! أن ينشئ مكتبة جديدة؟
يعزّ عليّ أن أحرم منك وقد كنت غذائي الروحي، وكنتُ ولا أزال شرهاً إلى هذا الغذاء. لقد كنت ألازمك في ليلي ونهاري، ولم يزرني أحد في الليل أو النهار إلا وجدني منكباً على كتبي...